فصل: تفسير الآية رقم (37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (37):

{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)}
{قَالَ لاَ يَأْتيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانه} في الحبس حسب عادتكما المطردة {إلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بتَأْويله} استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما به بأن بينت لكما ماهيته وكيفيته وسائر أحواله {قَبْلَ أَن يَأْتيَكُمَا}، وحاصله لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما قبل إتيانه إياكما بأنه يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت. وإطلاق التأويل على ذلك: مع أن حقيقته في المشهور تفسير الألفاظ المراد منها خلاف الظاهر ببيان المراد بطريق الاستعارة فإن ذلك يشبه تفسير المشكل، أو أنه بالنسبة إلى الطعام المبهم نزلة التأويل بالتأويل بالنسبة إلى ما رؤي في المنام وشبيه له. ويحسن هذه الاستعارة ما في ذلك من المشاكلة لما وقع في عبارتهما من قولهما: {نبئنا بتأويله} [يوسف: 36] وكون المراد بالتأويل الأمر الآيل لا المآل بناءًا على أنه في الأصل جعل شيء آيلًا إلى شيء آخر وكما يجوز أن يراد به الثاني يجوز أن يراد به الأول، ويكون المعنى إلا نبأتكما بما يؤول إليه من الكلام والخبرِ المطابق للواقع، في غاية البعد بل لا يكاد يلتفت إليه كما لا يخفى على المنصف. وكأنه عليه السلام أراد أن يعرض عليهما التوحيد ويزينه لهما ويقبح لهما الشرك بالله تعالى قبل أن يجيبهما عما سألاه من تعبير رؤياهما ثم يجيبهما عن ذلك.
وهذه طريقة على كل ذي عقل أن يسلكها مع الجهلة والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والنصيحة أولًا ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه، ولعل ذلك كان مغترضًا عليه عليه السلام فوصف نفسه أولًا بما هو فوق علم العلماء وهو الإخبار بالمغيبات وجعله تخلصًا لما أراد كالتخلصات المعروفة عندهم فإن الإخبار بالغيب يناسب ما سألاه من تأويل رؤياهما وأن من كان هكذا لا محالة يكون بغيره صادقًا، ويقوي أمر المناسبة تخصيص الطعام بالذكر من بين سائر المغيبات كما لا يخفى، ويناسب ما أراده من الدعوة إلى التوحيد لأنه ثبت صدقه ونبوته وكونه من المرتضين عند الله تعالى الصادقين في أقوالهم وأفعالهم، وفي حكاية الله تعالى ذلك إرشاد لمن كان له قلب، وقد أدمج فيه أن وصف العالم نفسه لينتفع به لا يحرم ولا يعد ذلك من التزكية المحظورة. وإلى ما ذكرنا من حمل الإتيان على الإتيان في اليقظة ذهب غير واحد من الأجلة وروي عن ابن جريج، وحمله بعضهم على الإتيان منامًا. قال السدي وابن إسحاق: إنه عليه السلام لما علم من رؤية الخباز أنه يقتل أخذ في حديث آخر تنسية لهما أمر المنام وطماعية في إيمانهما ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته فقال بعظيم علمه بالتعبير: إنه لا يجيئكما طعام في نومكما تريان أنكما ترزقانه إلا أعلمتكما بما يؤول إليه أمره في اليقظة قبل أن يظهر ذلك.
ولا يخفى أن حديث الطماعية المذكورة مما لا بأس إلا أن حديث التنسية لا يخلو عن منع. وجاء في رواية أخرى عن ابن جريج أخرجها ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه ما يقرب من هذا الحديث من وجه فإنه قال: إنه عليه السلام كره العبارة لهما فأجابهما بأن له علمًا بما يأتيهما من الطعام ولم يصرح بما تدل عليه رؤياهما شفقة على الهالك منهما، وكان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعامًا معلومًا فأرسل به إليه فلما لم يكتفيا بذلك وطلبا منه التعبير أيضًا دعاهما إلى التوحيد كراهة للعبارة أيضًا، فلما لم يكتفيا عبر لهما وأوضح ما تدل عليه رؤياهما وهو كما ترى. وأيًا مّا كان فالضمير في {تأويله} يعود على الطعام، وجوز عوده على ما قصاه عليه من الرؤيتين على معنى لا يأتيكما طعام ترزقانه حسب عادتكما إلا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما عليَّ قبل أن يأتيكما ذلك الطعام الموقت، والمراد الإخبار بالاستعجال بالتنبئة وفيه أنه خلاف الظاهر مع أن الإخبار بالاستعجال مما ليس فيه كثير مناسبة لما هو بصدده. وقد يقال: يجوز عود الضمير إلى ما قصاه ويكون المراد من الطعام المرزوق ما رأياه في النوم، ولا يخفى ما فيه أيضًا لكن التأويل على هذين الوجهين لا يحتاج إلى التأويل بل يراد منه ما أريد من تأويله في كلامهما، وكذا الضمير المستتر في {يأتيكما} يعود على الطعام وعوده على التأويل وإن كان أقرب بعيد.
ثم إنه عليه السلام أخبرهما بأن علمه ذلك ليس من علوم الكهنة والمنجمين بل هو فضل إلهي يؤتيه من يشاء فقال: {ذَلكُمَا} ويروى أنهما قالا له: من أين لك ما تدعيه من العلم وأنك لست بكاهن ولا منجم؟! وقيل: قالا إن هذا كهانة أو تنجيم فقال: أي ذلك التأويل والكشف عن المغيبات، ومعنى البعد في {ذلك} للإشارة إلى بعد منزلته وعلو درجته {ممَّا عَلَّمَني رَبِّي} بالوحي أو ينحو ذلك مما يحصل به العلم كما يكون للأولياء أهل الكشف رضي الله تعالى عنهم، واقتصر بعضهم على الأول وادعى أن الآية دليل على أنه عليه السلام كان إذ ذاك نبيًا، وأيًا مّا كان فالمراد أن ذلك بعض مما علمنيه الله تعالى أو من ذلك الجنس الذي لا يناله إلا الأصفياء، ولقد دلهما بذلك على أن له علومًا جمة ما سمعاه قطرة من تيارها وزهرة من أزهارها.
وقوله: {إنِّي تَرَكْتُ ملَّةَ قَوْم لاَّ يُؤمنُونَ بالله} استئناف وقع جوابًا عن سؤال نشأ مما تقدم وتعليلًا له كأنه قيل: لماذا علمك ربك تلك العلوم الجليلة الشأن؟ فقال: لأني تركت دين الكفر الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادة الأوثان.
وقيل: تعليل للتعليم الواقع صلة وهو يؤدي إلى معنى أنه مما علمني ربي لهذا السبب دون غيره وليس راد. وقيل: لمضمون الجملة الخبرية. وفيه أن ما ذكر ليس بعلة لكون التأويل المذكور بعضًا مما علمه ربه أو لكونه من جنسه بل لنفس التعليم. والمراد بالترك الامتناع فإنه لم يتلوث بتلك قط كما يفصح عنه ما يأتي من كلامه عليه السلام قريبًا إن شاء الله تعالى لكن عبر به عن ذلك استجلابًا لهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها على أحسن وجه. والتعبير عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به سبحانه للتنصيص على أن عبادتهم له تعالى مع عبادة الأوثان ليست بإيمان به تعالى كما يزعمونه. وأراد بأولئك القوم المتصفين بعنوان الصلة حيث كانوا، وقيل: أهل مصر فإنهم كانوا عبدة إذ ذاك {وَهُم بالآخرَة} وما فيها من الجزاء {هُمْ كَافِرُونَ} أي على الخصوص دون غيرهم من الكنعانيين الذين هم على ملة إبراهيم عليه السلام على ما يفيده توسيط ضمير الفصل هنا عند البعض، وذكر أن تقديم الضمير للتخصيص وتكريره للتأكيد، ولعله إنما أكد إنكارهم للمعاد لأنه كان أشد من إنكارهم للمبدأ فتأمل.

.تفسير الآية رقم (38):

{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)}
{وَاتَّبَعْتَ ملَّةَ ءَابَاءي إبراهيم وَإسْحَاق وَيَعْقُوبَ} داخل في حيز التعليل كأنه قال: إنما فزت بما فزت بسبب أني لم أتبع ملة قوم كفروا بالمبدأ والمعاد واتبعت ملة آبائي الكرام المؤمنين بذلك، وإنما قاله عليه السلاة ترغيبًا لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيرًا لهما عما كانا عليه من الشرك والضلال، وقدم ذكر تركه لملتهم على ذكر اتباعه لملة آبائه عليهم السلام لأن التخلية مقدمة على التحلية. وجوز بعضهم أن لا يكون هناك تعليل وإنما الجملة الأولى مستأنفة ذكرت تمهيدًا للدعوة والثانية إظهارًا لأنه من بيت النبوة لتقوى الرغبة فيه، وفي كلام أبي حيان ما يقتضي أنه الظاهر وليس بذاك. وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون {آبائي} بإسكان الياء وهي مروية عن أبي عمرو {مَا كَانَ} ما صح وما استقام فضلًا عن الوقوع {لَنَا} معاشر الأنبياء لقوة نفوسنا، وقيل: أي أهل هذا البيت لوفور عناية الله تعالى بنا {أَن نُّشْركَ بالله من شَيْء} أي شيئًا أي شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلًا عن الصنم الذي لا يسمع ولا يبصر: فمن: زائدة في المفعول به لتأكيد العموم، ويجوز أن يكون المعنى شيئًا من الإشراك قليلًا كان أو كثيرًا فيراد من {شيء} المصدر وأمر العموم بحاله، ويلزم من عموم ذلك عموم المتعلقات.
{ذَلكَ} أي التوحيد المدلول عليه بنفي صحة الشرك {من فَضْل الله عَلَيْنَا} أي ناشئ من تأييده لنا بالنبوة والوحي بأقسامه، والمراد أنه فضل علينا بالذات {وَعَلَى النَّاس} بواسطتنا {وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لاَ يَشْكُرُونَ} أي لا يوحدون، وحيث عبر عن ذلك بذلك العنوان عبر عن التوحيد الذي يوجبه بالشكر لأنه مع كونه من آثار ما ذكر من التأييد شكر لله عز وجل. ووضع الظاهر موضع الضمير الراجع إلى الناس لزيادة التوضيح والبيان ولقطع توهم رجوعه إلى مجموع الناس وما كنى عنه: بنا: الموهم لعدم اختصاص غير الشاكر بالناس، وفيه من الفساد ما فيه. وجوز أن يكون المعنى ذلك التوحيد ناشئ من فضل الله تعالى علينا حيث نصب لنا أدلة ننظر فيها ونستدل بها على الحق، وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس أيضًا من غير تفاوت ولكن أكثرهم لا ينظرون ولا يستدلون بها اتباعًا لأهوائهم فيبقون كافرين غير شاكرين، والفضل على هذا عقلي وعلى الأول سمعي. وجوز المولى أبو السعود أن يقال: المعنى ذلك التوحيد من فضل الله تعالى علينا حيث أعطانا عقولًا ومشاعر نستعملها في دلائل التوحيد التي مهدها في الأنفس والآفاق، وقد أعطى سائر الناس أيضًا مثلها ولكن أكثرهم لا يشكرون أي لا يصرفون تلك القوى والمشاعر إلى ما خلقت هي له ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيد الآفاقية والأنفسية والعقلية والنقلية انتهى.
ولك أن تقول: يجوز أن تكون الإشارة إلى ما اشير إليه بـ {ذلكما} [يوسف: 37] ويراد منه ما يفهم مما قبل من علمه بتأويل الرؤيا. و{من} في قوله: {من فضل الله} تبعيضية، ويكون قد أخبر عنه أولًا بأنه مما علمه إياه ربه وثانيًا بأنه بعض فضل الله تعالى عليه وعلى آبائه بالذات وعلى الناس بواسطتهم لأنهم يعبرون لهم رؤياهم فيكشفون لهم ما أبهم عليهم ويزيلون عنهم ما أشغل أذهانهم مع ما في ذلك من النفع الذي لا ينكره إلا نائم أو متناوم، ومن وقف على ما ترتب على تعبير رؤيا الملك من النفع الخاص والعلم لم يشك في أن علم التعبير من فضل الله تعالى على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون فضل الله تعالى مطلقًا أو فضله عليهم بوجود من يرجعون إليه في تعبير رؤياهم، ويكون ذلك نظير قولك لمن سألك عن زيد: ذلك أخي ذلك حبيبي، لكنه وسط هاهنا ما وسط وتفنن في التعبير فأتى باسم الإشارة أولًا مقرونًا بخطابهما ولم يأت به ثانيًا كذلك وأتى بالرب مضافًا إلى ضميره أولًا وبالاسم الجليل ثانيًا، ويجوز أن يكون المشار إليه في الموضعين الإخبار بالمغيبات مطلقًا، والكلام في سائر الآية عليه لا أظنه مشكلًا، وعلى الوجهين لا ينافي تعليل نيل تلك الكرامة: بتركه ملة الكفرة واتباعه ملة آبائه الكرام: الإخبار بأن ذلك من فضل الله تعالى عليه وعلى من معه كما لا يخفى، نعم إن حمل الإشارة على ما ذكر وتوجيه الآية عليه بما وجهت لا يخلو عن بعد. ومن الناس من جعل الإشارة إلى النبوة وفيه ما فيه أيضًا.
هذا أوجب الإمام كون المراد في قوله: {لا يشكرون} لا يشكرون الله تعالى على نعمة الإيمان، ثم قال: وحكي أن واحدًا من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر فقال: هل تشكر الله تعالى على الإيمان أم لا؟ فإن قلت: لا فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلًا له؟! فقال بشر: إنا نشكره على أن أعطانا القدرة والعقل والآلة، وأما أن نشكره على الإيمان مع أنه ليس فعلًا له فذلك باطل، وصعب الكلام على بشر فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس، فقال: إنا لا نشكر الله تعالى على الإيمان بل الله تعالى يشكره علينا كما قال سبحانه: {فأولئك كان سعيهم مشكورًا} [الإسراء: 19] فقال بشر: لما صعب الكلام سهل، وتعقب ذلك عليه الرحمة بأن الذي التزمه ثمامة باطل وهو على طرف الثمام بنص هذه الآية لأنه سبحانه بين فيها أن عدم الإشراك من فضل الله تعالى، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، وقد ذكر سبحانه ذلك على سبيل الذم فدل على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر الله تعالى على الإيمان لئلا يدخل في الذم وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة اه. ولعل الوجه في الآية ما تقدم فليفهم.

.تفسير الآية رقم (39):

{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)}
{يَا صَاحبَي السِّجْن} أي يا صاحبي فيه إلا أنه أضيف إلى الظرف توسعًا كما في قولهم: يا سارق الليلة أهل الدار؛ ولعله إنما ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجان ودار الأحزان التي تصفو فيها المودة وتتمحض النصيحة ليقبلا عليه ويقبلا مقالته؛ ويجوز أن يراد بالصحبة السكنى كما يقال: أصحاب النار وأصحاب الجنة لملازمتهم لهما، والإضافة من باب إضافة الشيء إلى شبه المفعول عند أبي حيان وإلى المفعول عند غيره ولا اتساع في ذلك، وقيل: بل هناك اتساع أيضًا، وأنه أضافهما إلى السجن دونه لكونهما كافرين وفيه نظر، ولعل في ندائهما بذلك على هذا الوجه حثًا لهما على الإقرار بالحق كأنه قال لهما: يا ساكني هذا المكان الشاق والمحل الضنك إني ذاكر لكم أمرًا فقولوا الحق فيه ولا تزيغوا عن ذلك فأنتم تحت شدة ولا ينبغي لمن كان كذلك أن يزيغ عن الحق، وإنما حمل الصاحب على ما سمعت لأن صاحب السجن في الاستعمال المشهور السجان أو الملك، والنداء: بيا: بناءًا على الشائع من أنها للبعيد للإشارة إلى غفلتهما وهيمانهما في أودية الضلال.
وقد تلطف عليه السلام بهما في ردهما إلى الحق وإرشادهما إلى الهدى حيث أبرز لهما ما يدل على بطلان ما هما عليه بصورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بإبطال ما ألفاه دهرًا طويلًا ومضت عليه أسلافهما جيلًا فجيلًا فقال: {ءَأرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ} متعددون متكثرون يستعبدكما منهم هذا وهذا، والكلام على ما صرح به أبو حيان على حذف مضاف أي أعبادة أرباب متفرقين {خَيْرٌ} لكما {أَم اللهُ} أي أم عبادة الله سبحانه: {الْوَاحدُ} المنفرد بالألوهية {الْقَهَّارُ} الغالب الذي لا يغالبه أحد جل وعلا، وهو أولى مما قاله الخطابي من أنه الذي قهر الجبابرة بالعقوبة والخلق بالموت.
وذكر الزمخشري أن هذا مثل ضرب لعبادة الله تعالى وحده ولعبادة الأصنام، واعترضه القطب بأن ذلك إنما يصح لو نسبا تارة إلى أرباب شتى وأخرى إلى رب واحد كما في قوله تعالى: {ضرب الله مثلًا رجلًا فيه شركاء} [الزمر: 29] الآية لكنهما نسبا إلى أرباب وإلى الله تعالى، فكيف يكون مثلًا؟! وأجاب بأنه يفسر الله تعالى برب واحد لأنه في مقابلة أرباب، وإنما عبر عن رب واحد بالله تعالى لانحصاره فيه جل جلاله. وقال الطيبي أيضًا: إن في ذلك إشكالًا لأن الظاهر من الآية نفي استواء الأصنام وعبادتها بالله تعالى وعبادته فأين المثل؟ ثم قال: لكن التقدير أسادات شتى تستعبد مملوكًا واحدًا خير من سيد واحد قهار فوضع موضع الرب، والسيد الله لكونه مقابلًا لقوله: {أأرباب} فيكون كقوله تعالى: {ضرب الله مثلًا رجلًا فيه شركاء}
[الزمر: 29] الآية.
وقرر في الكشف ما ادعى معه ظهور كونه مثلًا ظهورًا لا إشكال فيه، والحق أنه ظاهر في نفي الاستواء وإنّ جعله مثلًا يحتاج إلى تأويل حسا سمعت عن الطيبي إلا أنه لا يخلو عن لطف؛ ولعله الأولى وإن أحوج إلى ما أحوج. وحمل التفرق على التفرق في العدد والتكاثر مما ذهب إليه غير واحد، وحمله بعضهم على الاختلاف في الكبر والصغر والشكل ونحو ذلك مما يحصل لها بواسطة تأثير الغير فيها، وجعله إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة. وأما التعدد فيشير إليه جمع أرباب باعتبار أنه جمع فيكون ذكر الواحد على هذا في مقابلة ما أشير إليه من التعدد، والقهار في مقابلة ما أشير إليه من المقهورية والعجز، والمعنى أمتعددون سميتموهم أربابًا عجز مقهورون متأثرون من غيرهم خير أم الله أي صاحب هذا الاسم الجليل الواحد الذي يستحيل عليه التكثر بوجه من الوجوه القهار الذي لا موجود إلا وهو مسخر تحت قهره وقدرته عاجز في قبضته. وقيل: المراد من {متفرقون} مختلفو الأجناس والطبائع كالملك والجن والجماد مثلًا، ويجوز أن يراد منه من لا ارتباط بينهم ولا اتفاق، وكثيرًا ما يكنى بذلك عن العجز واختلال الحال، وقد استنبط الإمام من الآية غير ما حجة على بطلان عبادة الأصنام، وظاهر كلامه أنه لم يعتبرها مثلًا فليتأمل.
ثم إنه عليه السلام زاد في الإرشاد ببيان سقوط آلهتهما عن درجة الاعتبار رأسًا فضلًا عن الألوهية، وأخرج ذلك على أتم وجه فقال معممًا للخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر كما هو الظاهر، وقيل: مطلقًا، وقيل: من معهما من أهل السجن: